• !
admin

القيادة التربوية وتمكين المعلم: من الوظيفة الإدارية إلى التأثير الاستراتيجي

القيادة التربوية وتمكين المعلم: من الوظيفة الإدارية إلى التأثير الاستراتيجي
بقلم الدكتور بدر رمضان الحوسني

في زمن تتسارع فيه وتيرة التغيير في البيئة التعليمية، لم تعد القيادة التربوية مجرد وظيفة إدارية تُعنى بتنظيم الجداول ومتابعة الحصص، بل غدت إطارًا استراتيجيًا يقود المؤسسة نحو التميز ويُحدث أثرًا حقيقيًا في جودة المخرجات. القائد اليوم لا يقتصر دوره على إدارة النظام المدرسي، بل يُبنى على قدرته في صناعة بيئة تعليمية محفّزة، تدعم الإبداع، وتشجّع المبادرة، وتغرس ثقافة التعاون والعمل الجماعي.

أظهرت نتائج دراستي الأكاديمية التي أجريتها عام 2024 حول التمكين الإداري في مؤسسات التعليم في دولة الإمارات أن منح المعلمين والإداريين حرية اتخاذ القرار، وتمكينهم من أداء أدوارهم بثقة وفاعلية، هو ركيزة أساسية لتحقيق الرضا الوظيفي، وزيادة الإنتاجية، وتعزيز الولاء المؤسسي. فالمعلم الذي يشعر أنه موثوق به يبدع، والقائد الذي يزرع الثقة يحصد التغيير الحقيقي.

التمكين الإداري كمدخل للتحول المدرسي
أحد أبرز أبعاد التمكين الإداري التي تناولتها الدراسة هي:

حرية الاختيار في تنفيذ المهام؛ حيث يعزز ذلك الشعور بالاستقلالية ويزيد من الحافزية الذاتية.

معنى العمل؛ حينما يدرك الموظف قيمة ما يؤديه من مهام ودوره في تشكيل مستقبل الطلبة، فإن عطاؤه يصبح نابعًا من التزام داخلي.

الفاعلية الذاتية (Self-Efficacy)؛ وهي الثقة في القدرة على تحقيق نتائج حقيقية في بيئة مليئة بالتحديات.

التأثير في اتخاذ القرار؛ حيث يشعر المعلم أو القائد أنه شريك حقيقي في بناء وتوجيه المؤسسة التربوية.

وقد بيّنت الدراسة أن غياب هذه الأبعاد يؤدي إلى ضعف الأداء وتراجع الروح المهنية، في حين أن تمكين الموظفين عبر هذه المكونات يفتح المجال أمام المدارس لأن تكون مختبرات حيّة للإبداع التعليمي.

التحفيز كوسيط استراتيجي بين الابتكار والتمكين
من النتائج المحورية في البحث أن التحفيز يمثل متغيرًا وسيطًا حيويًا يربط بين ممارسات الابتكار وبين تحقيق التمكين الإداري. فالتحفيز بجوانبه المادية والمعنوية لا يجب أن يُفهم كأداة للمكافأة فقط، بل كأداة استراتيجية لبناء ثقافة مهنية صحية، تُعلي من قيمة الإنجاز والتقدير، وتُسهم في استقرار البيئة الوظيفية.

وقد أظهرت النمذجة الإحصائية (Structural Equation Modeling) في الدراسة أن العلاقة بين الابتكار والتمكين تصبح أقوى عند تعزيز التحفيز الفعّال، وهو ما يدعو المؤسسات التعليمية إلى إعادة النظر في استراتيجياتها التحفيزية وتوسيعها لتشمل تقدير الأداء الإبداعي والقرارات الذاتية المؤثرة.

من السلطة إلى المسؤولية
في ضوء هذه النتائج، فإن القيادة التربوية لم تعد "سلطة" يتحرك القائد من خلالها لإدارة الآخرين، بل أصبحت "مسؤولية" أخلاقية وإنسانية تجاه تطوير الأفراد وصناعة بيئة تعليمية قادرة على التأقلم مع متغيرات العصر. لقد أصبح القائد بحاجة إلى ممارسة أدواره عبر مفهوم "القيادة الممكنة"، التي تركز على تطوير القدرات، وبناء الثقة، وتوزيع الصلاحيات، وقيادة التغيير من داخل المؤسسة لا من خارجها.

نحو بيئة تعليمية ذكية وممكّنة
في بيئة رقمية وذكية كبيئة دولة الإمارات، لا بد من ترسيخ مبدأ "التحول الذكي في التمكين الإداري"، والذي يعتمد على استخدام أدوات التكنولوجيا والحوكمة الذكية لتعزيز القرارات المبنية على البيانات، والتفاعل الفوري مع التحديات، واستثمار قدرات الذكاء الاصطناعي في دعم الإدارة المدرسية.

وهنا، تؤكد الدراسة على ضرورة بناء أنظمة ذكية داخل المؤسسة التعليمية، تدعم المرونة والاستجابة، وتحقق التكامل بين رأس المال البشري والتقنيات الحديثة، بما يحقق الاستدامة والجودة في التعليم.

خاتمة: القائد الممكن هو صانع المستقبل
تخلص دراستي إلى أن المدرسة الفاعلة تبدأ من القائد الممكن، والمعلم المؤثر، والبيئة المحفزة. وعليه، فإن أي تحول حقيقي في التعليم لا بد أن يمر عبر مسار التمكين، وليس عبر الأوامر والتعليمات. فالقائد التربوي الذي يُمكّن الآخرين، هو الذي يضع أسس التميز، ويبني مجتمعًا تعليميًا إنسانيًا فاعلًا، يربط بين الرؤية الوطنية، ومتطلبات السوق، وأصالة الرسالة التربوية.

"التمكين ليس منحة.. بل هو حق مهني ومجتمعي، وأداة استراتيجية لإطلاق طاقات الأفراد نحو مستقبل تربوي مزدهر".
— د. بدر رمضان الحوسني
بواسطة : admin
 0  0  74