• !
admin

لماذا يتفوق الذكاء العاطفي على الذكاء العقلي في النجاح الحديث؟

لماذا يتفوق الذكاء العاطفي على الذكاء العقلي في النجاح الحديث؟
د. بدر رمضان الحوسني
https://albdercom.blogspot.com/2025/05/blog-post_79.html

في عالم تتسارع فيه التحولات لم تعد الشهادات العليا ولا قدرات التحليل وحدها كافية لضمان النجاح.
هناك عنصر خفي، لكنه حاسم في التميز والقيادة ألا وهو "الذكاء العاطفي".
ففي الوقت الذي يُقاس فيه الذكاء العقلي بالاختبارات والمنطق يُقاس الذكاء العاطفي بمدى قدرة الإنسان على فهم مشاعره ومشاعر من حوله وضبط انفعالاته والتصرف بوعي إنساني في اللحظات الصعبة.
الفرق بين الذكاء العقلي والذكاء العاطفي
• الذكاء العقلي IQ: يقيس القدرة على التفكير والتحليل وحل المشكلات ويميل إلى الجانب المعرفي.
الذكاء العاطفي EQ: يعكس القدرة على فهم الذات التعاطف إدارة المشاعر التواصل والتحفيز.
لماذا أصبح الذكاء العاطفي ضرورة؟
لان معظم التحديات التي تواجه الافراد والمؤسسات اليوم ليست معرفية بحتة، بل تواصلية وانسانية.
فالمشكلات التي تفشل الاجتماعات وتعطل المشاريع وتضعف الفرق لا تنبع من نقص في المعرفة او المهارة التقنية، بل من غياب الفهم العاطفي وسوء ادارة العلاقات.
المدير لا يفشل لأنه لا يعرف، بل لأنه لا يفهم الناس.
في معظم البيئات المهنية، لا يقع الفشل بسبب ضعف في الخطط او نقص في الخبرة، بل بسبب غياب الفهم الانساني والتعامل البارد مع الناس. المدير الذي لا يفهم دوافع موظفيه، ولا يقدّر ظروفهم، ولا يستوعب اختلافاتهم، يخلق بيئة عمل مشحونة ومرهقة.
• لا يقرأ الاشارات الصامتة:
عندما يدخل الموظف الى الاجتماع وهو شارد الذهن او محبط الملامح، لا ينتبه المدير. بينما المدير الذكي عاطفيا يلتقط هذه الاشارات ويسأل لاحقاً باهتمام: هل كل شيء على ما يرام؟
• لا ينتبه لمشاعر التوتر:
إذا زادت الضغوط، وتكررت الاخطاء، وبدأ الفريق يتصرف بعصبية، يظن المدير ان المشكلة في الكفاءة، بينما السبب الحقيقي هو الارهاق النفسي وغياب الدعم.
• لا يصغي بما يكفي:
يقطع حديث الموظف، او يستعجل الرد، او يسمع ليرد لا ليفهم. بينما الموظف يريد ان يشعر انه مسموع، وان رأيه له قيمة، حتى لو لم يُنفّذ.
• لا يدير الخلافات، بل يفاقمها بسلوكه المتسرع او انحيازه غير الواعي.
بدلا من تهدئة النفوس وتقريب وجهات النظر، يتسبب في اتساع الهوة بين افراد الفريق، مما يخلق جوا من التوتر وسوء الظن والاحباط.
فهم الناس لا يعني التنازل عن الانضباط، بل يعني ان تُعامل كل فرد كإنسان له احتياجات وظروف ومشاعر، وان تُدير الفريق بعين العقل وقلب الانسان.

الموظف لا يغادر عمله لأنه لا يجيد اداء المهام، بل لأنه يشعر بعدم التقدير او بعدم الامان او بعدم الانتماء.
في كثير من الحالات، لا يترك الموظف عمله بسبب عبء المهام او ضعف الاداء، بل بسبب تجربة شعورية سلبية تراكمت بصمت.
فهو قد يؤدي المطلوب منه بدقة، لكنه لا يسمع كلمة شكر.
ينجز المهام يوما بعد يوم، لكن لا أحد يسأله: كيف تشعر؟ هل تحتاج دعما؟
يجتهد في تطوير نفسه، ولا يجد من يلاحظ او يعترف بجهوده.
مع الوقت، يشعر ان وجوده في المكان لا يحدث فرقا.
ان احدا لن ينتبه ان غاب.
ان المؤسسة تراه رقما لا انساناً.
فيبدأ بالانزواء تدريجيا، ينجز الحد الادنى من المطلوب، ويبتعد عن التفاعل والمبادرة.
وهنا يبدأ الانفصال النفسي قبل ان يبدأ البحث عن وظيفة جديدة.
الرواتب قد تجذب الناس، لكن التقدير هو ما يجعلهم يبقون.
وغياب الامان النفسي – من مدير متسلط، او مناخ مشحون، او عدم وضوح في القرارات – يجعل الموظف في حالة ترقب وتوتر، وكأن عليه ان يدافع عن نفسه بدلا من ان يبدع.
اما الانتماء، فهو الشعور بانك جزء من كيان أكبر، تؤثر فيه ويؤثر فيك.
إذا شعر الموظف انه غريب وسط فريقه، او ان صوته لا يُسمع، او ان قيمه لا تتوافق مع ما يراه من ممارسات… فان الانتماء يذبل، ومعه الولاء.
لهذا، فان المدير الذكي عاطفيا لا يسأل فقط عن انتاجية الموظف، بل يسأل ايضا:
هل يشعر هذا الشخص بالتقدير؟
هل يحس بالأمان؟
هل يجد نفسه جزءا من هذه المؤسسة؟
لان الاجابة عن هذه الاسئلة تحدد ان كان الموظف سيعطي، ام سيفكر في الرحيل.

مثال عن الاب:
طفل صغير عاد من المدرسة غاضبا القى حقيبته ورفض الحديث. الاب الذكي عاطفيا لم يقل: ما هذا الاسلوب؟ بل جلس قربه وقال: يبدو ان شيئا ازعجك اليوم. انا هنا متى ما رغبت بالحديث.
هذا الاحتواء البسيط فتح باب الثقة وعلّم الطفل ان مشاعره محترمة.
مثال عن المعلم:
أحد الطلاب بدأ يتأخر عن دخول الصف باستمرار. المعلم لم يوبخه امام زملائه، بل انتظره بعد الحصة وسأله بلطف: كل شيء بخير؟ لاحظت إنك تغيرت.
تبين ان الطالب يواجه ضغوطا عائلية. المعلم احاله الى المرشد وتابعه بلطف فتحسن التزامه الدراسي خلال اسبوعين.

في زمن تتوفر فيه المعرفة بضغطة زر، لم يعد امتلاك المعلومة هو ما يميز الفرد، بل القدرة على تحويل تلك المعرفة الى تواصل انساني فعال.
اصبح التميز الحقيقي لا يتعلق بكم نعرف عن الناس، بل كيف نتعامل معهم. كيف نصغي، كيف نحفز، كيف نحتوي، وكيف نتصرف تحت الضغط دون ان نفقد احترامنا للذات وللآخرين.
الذكاء العاطفي اليوم ليس رفاهية ولا مجرد مهارة ناعمة، بل هو اداة اساسية للبقاء والتقدم في عالم يتغير بسرعة، ويزداد فيه التعقيد، وتتشابك فيه العلاقات اكثر من اي وقت مضى.
في هذا العالم، من لا يتقن فهم الناس ومراعاة مشاعرهم، سيتعثر في بناء الفرق، وسيفشل في كسب الثقة، وسيفقد تأثيره مهما كانت قدراته التقنية او العلمية عالية.
ولهذا، فان المؤسسات الاكثر نجاحا لم تعد تبحث فقط عن الموظف الاكثر كفاءة، بل عن الشخص الاكثر وعيا بذاته، والافضل تعاونا مع من حوله.
١. الذكاء العاطفي يصنع قادة لا مجرد مدراء
المديرون المتميزون في القرن الحادي والعشرين هم أولئك الذين لا يكتفون بإدارة المهام بل يديرون المشاعر أيضا.
الذكاء العاطفي يمنح القائد القدرة على الإلهام لا الإلزام وعلى التأثير لا التسلط.
مثال تطبيقي:
في إحدى الشركات كان أحد الموظفين المتميزين يتراجع أداؤه بشكل ملحوظ. بدلا من توبيخه قرر مديره أن يجلس معه على انفراد. سأل بلطف: "هل كل شيء بخير؟ لاحظت تغيرا في أدائك مؤخرا".
اتضح أن الموظف يمر بأزمة أسرية وشعر بالامتنان لأن أحدا لاحظه. هذا الموقف البسيط أعاد للموظف طاقته وزاد ولاءه للفريق.

٢. المهارات الاجتماعية أساس التقدم المهني
الشخص الذي يتقن التعامل مع الآخرين يُصغي يتعاطف ويعرف متى يتكلم ومتى يصمت غالبا ما يُفضل على الأذكى أكاديميا.
مثال تطبيقي:
اثنان يتقدمان لمنصب قيادي. الأول حاصل على شهادات مرموقة والثاني لديه مهارات تواصل عالية ويجيد حل النزاعات بلغة هادئة. يتم اختيار الثاني لأنه ببساطة: "يعرف كيف يتحدث مع الناس".

٣. الذكاء العاطفي قابل للتعلم
الخبر الرائع ان الذكاء العاطفي ليس موهبة فطرية يولد بها البعض فقط، بل هو مهارة يمكن تطويرها لدى اي شخص مهما كان طبعه او خلفيته.
الذكاء العاطفي يبدأ من الوعي الذاتي، اي ان يعرف الانسان ما يشعر به فعلا، ولماذا يتصرف بطريقة معينة، وكيف تؤثر مشاعره على قراراته وسلوكه.
ثم ينمو من خلال التغذية الراجعة، عندما يسمع الانسان آراء الاخرين عنه بصدق، ويتقبلها بنية التحسن لا الدفاع.
ويتطور عبر الممارسة اليومية، من خلال ضبط النفس، واحترام مشاعر الاخرين، واختيار الكلمات المناسبة، والتعامل الهادئ مع الضغوط والمواقف الصعبة.
مثال تطبيقي:
معلمة كانت تواجه صعوبات في ضبط الصف، وغالبا ما تنفعل بسرعة. بعد حضورها ورشة تدريبية عن الذكاء العاطفي، بدأت بتدوين مشاعرها يوميا، ومراقبة ردود افعالها، وتعلمت تقنيات التنفس والتأمل قبل الرد.
خلال اسابيع، لاحظت تغيرا كبيرا في استجابتها للمواقف، وتحسن علاقتها مع الطلاب، وشعرت بالسيطرة الايجابية على اجواء الصف.
وهكذا، فإن الذكاء العاطفي يشبه العضلة… كلما دربناها، اصبحت اقوى واكثر مرونة.

مثال تطبيقي:
معلمة كانت تعاني من صعوبات متكررة في ضبط الصف، واعتادت الانفعال السريع والرد الحاد على السلوكيات المزعجة. حضرت ورشة تدريبية عن الذكاء العاطفي، فتغير منظورها.
بدأت تطبق تقنيات بسيطة بشكل يومي، مثل التنفس العميق قبل الرد، وتدوين مشاعرها بعد الحصص، واعادة صياغة جمل التوجيه بطريقة هادئة ومحفزة.
بعد اسابيع قليلة، لاحظت انخفاض مستوى الفوضى، وزيادة تجاوب الطلاب، وتحسنت الاجواء داخل الصف بشكل لافت.
ولأول مرة، شعرت المعلمة ان ضبط الصف لا يحتاج الى صراخ، بل الى وعي، وثبات، وحضور عاطفي ذكي.
وهكذا، فإن الذكاء العاطفي يشبه المهارات العضلية… كلما استخدمناه وتدربنا عليه، أصبح اقوى واكثر فاعلية في التعامل مع الناس والمواقف.

٤. في عصر الذكاء الاصطناعي تبقى المشاعر انسانية بامتياز
نعيش اليوم في زمن تحلل فيه الآلات البيانات بشكل أسرع مما يتخيله الانسان، وتُتخذ فيه بعض القرارات بناء على خوارزميات معقدة لا ترى من الانسان سوى الارقام والانماط.
ومع هذا التقدم، يبقى شيء واحد لا تستطيع التقنية محاكاته بالكامل: المشاعر الانسانية.
الرحمة، التفهم، التعاطف، القدرة على احتواء الالم، وتقدير السياق النفسي للآخرين، كلها مهارات انسانية بامتياز لا تُبرمج، ولا تُحسب، ولا تُستبدل.
الذكاء الاصطناعي قد يحدد من انخفض انتاجه، لكنه لا يعرف لماذا.
قد يقترح مكافأة من تفوق، لكنه لا يدرك انه فعل ذلك رغم ظروفه الصعبة.
قد يوصي بقرار تأديبي، لكنه لا يشعر بالانكسار خلف الخطأ.
مثال واقعي:
اعتمدت شركة كبيرة على نظام آلي لمراقبة اداء الموظفين. اكتشف النظام تراجع انتاجية فريق معين، وقدم توصية بإنذارهم.
لكن المدير البشري، الذي كان يتواصل مع الفريق يوميا، لاحظ انهم يمرون بحالة حزن جماعي بعد وفاة أحد الزملاء المقربين.
بدلا من تنفيذ التوصية الالية، قرر تعليق التقييم مؤقتا، وطلب تخصيص جلسات دعم نفسي للفريق، وشجعهم على التعبير عما يشعرون به دون خوف.
بعد اسبوعين فقط، عاد الفريق الى مستوى الاداء الطبيعي، بل وتحسن في بعض المؤشرات.
هذا ما لا تراه الآلة… لكن يراه الذكاء العاطفي.
ولذلك، فان الذكاء العاطفي ليس في مواجهة التقنية، بل يكملها ويضبطها ويجعلها أكثر انسانية.
ففي عالم تقوده البيانات، نحتاج لمن يفهم الانسان لا لمن يحلله فقط.
وفي مؤسسات المستقبل، سيكون المدير الاكثر نجاحا هو من يعرف كيف يوازن بين ما تقوله الارقام، وما تقوله ملامح الوجوه.

٥. النجاح الحقيقي يقاس بالأثر لا بالتحصيل
في عالم يزداد تنافسا وانشغالا بالأرقام والانجازات، نحتاج ان نعيد تعريف النجاح.
النجاح الحقيقي لا يعني فقط ان ننجز المطلوب، بل ان نترك اثرا طيبا في نفوس من عملوا معنا، وان نصنع تجربة انسانية تجعل الطريق نحو الهدف أكثر قيمة من الهدف نفسه.
المجتمعات لا تتذكر دائما من انهى المهمة بسرعة، بل تتذكر من جعل العمل أكثر احتراما، واكثر انسانية.
الفرق لا تنسى المدير الذي حصل على النتائج، لكنها تذكر أكثر ذلك القائد الذي دعمهم، واحتواهم، وجعلهم يشعرون انهم شركاء لا مجرد منفذين.
الذكاء العاطفي لا يصنع النتيجة فقط، بل يصنع الشعور الذي يبقى بعدها.
يصنع الاحترام المتبادل، والثقة، والانتماء… وهي كلها عناصر لا تُقاس بالحسابات، لكنها تصنع فارقا في ولاء الفريق واستمراريته.
مثال تطبيقي:
قائد فريق في قطاع خدمي خسر صفقة مهمة كانت موضع اهتمام الادارة.
بدلا من الغضب او توجيه اللوم، جمع الفريق وقال بهدوء: ما حدث درس كبير. تعالوا نحلل ما جرى ونفكر كيف نستفيد منه في المرة القادمة.
هذا الاسلوب لم يُخفّف فقط التوتر، بل شحن الفريق بروح التعاون والثقة بالنفس، وعزز القناعة بان الفشل مرحلة، لا نهاية.
وبعد اسابيع، فاز الفريق بفرصة اخرى اكبر، بروح اقوى، وولاء اكبر.
لأن القائد لم يركز على النتيجة فقط، بل على الاثر الذي يتركه في نفوس فريقه.

٦. الذكاء العاطفي في التربية والتعليم
في عالم التعليم، كثيرا ما يُركّز على الدرجات والاختبارات والمناهج، لكن الحقيقة التي لا تُقال دائما هي ان النجاح الأكاديمي يبدأ من الشعور بالأمان النفسي.
المعلم الذكي عاطفيا لا يكتفي بتلقين المعلومات، بل يخلق بيئة يشعر فيها الطالب انه مرئي، مسموع، ومهم.
الطفل إذا شعر بالتقدير سيتعلم، واذا شعر انه مرغوب فيه داخل الصف، سينفتح عقله وقلبه للتجربة التعليمية.
اما إذا شعر بالخوف، او بالأحراج، او بعدم الامان، فلن يتعلم شيئا، حتى لو كان المعلم عبقريا في مادته.
التعليم ليس فقط توصيل معرفة، بل بناء ثقة.
والمعلم الناجح هو الذي يرى خلف السلوك، ويفهم ما لا يُقال، ويعطي مشاعر الطالب مساحة تسبق دفتره ودرجاته.
مثال تطبيقي:
طالب في الصف الثامن بدأ يتغيب عن المدرسة كثيرا دون سبب واضح.
بدلا من معاقبته، قررت المعلمة زيارته في المنزل. اكتشفت ان والده مريض بالسرطان، وان الطفل يعيش حالة قلق مستمرة.
تواصلت المعلمة مع الأخصائي الاجتماعي والنفسي، وطلبت دعما نفسيا له، وتعاملت معه باحتواء لا بلوم.
وخلال اسابيع، عاد الطالب الى انتظامه، وأصبح من أكثر الطلاب التزاما.
هذه ليست مهارة تعليمية، بل مهارة عاطفية انسانية.
ولذلك، فإن من يملك الذكاء العاطفي في التعليم لا يصنع طلابا ناجحين فقط، بل يصنع اناسا اقوياء وآمنين نفسيا.
٧. الذكاء العاطفي في الاسرة والعلاقات الشخصية
في العلاقات الاسرية، لا تقاس القوة بكثرة الاوامر، ولا يُبنى الاحترام بالخوف، بل بالاحتواء، والتفهم، والاصغاء لما وراء الكلمات.
الاب الناجح، والام الناجحة، لا ينجحان بكثرة التعليمات، بل بكثرة الحضور العاطفي.
حين يشعر الابن ان والديه يريان مشاعره، لا تصرفاته فقط، تتشكل بينهما رابطة من الثقة تفوق اي سلطة.
وحين يشعر الطفل ان بيته مساحة آمنة للتعبير لا مكانا للمحاسبة الفورية، يبدأ في مشاركة افكاره ومخاوفه باطمئنان.
المشكلات في البيوت لا تُحل بالصوت المرتفع، بل بالصوت العميق المليء بالفهم.
الكلمات التي تخرج من قلب هادئ، تصل الى قلب الابن، حتى لو لم تقال بقوة.
مثال تطبيقي:
ابنة مراهقة دخلت غرفتها تبكي بعد جدال مع زميلتها.
بدلا من توجيه الاسئلة او العتاب، جلست الام قرب الباب، وقالت بهدوء: اشعر ان في قلبك شيئا يؤلمك… انا هنا متى اردت الحديث.
مرت ساعة، وخرجت الفتاة بهدوء، وجلست مع والدتها، وتحدثت باختيارها، واستمعت الى النصيحة برضا لا عن خوف.
هذا هو الذكاء العاطفي في العلاقات… ان تصنع مساحة يشعر فيها الاخر انه حر في التعبير، وآمن في البوح، ومحبوب حتى في لحظات ضعفه.
٨. هل الذكاء العاطفي يناقض الحزم؟
سؤال يتكرر كثيرا: اذا كنت متفهما وعاطفيا، فهل يعني ذلك انك ضعيف؟
الاجابة: لا. الذكاء العاطفي لا يعني التراخي، ولا يعني التنازل عن المبادئ، بل يعني ان تمارس الحزم بطريقة انسانية راقية.
ان تكون حازما لا يعني ان ترفع صوتك، بل ان تكون واضحا في قراراتك، ثابتا في موقفك، دون ان تجرح، او تهين، او تكسر ثقة الاخر.
والذكاء العاطفي هنا لا يلغي الحزم، بل يعطيه بعدا انسانيّا يجعل التأديب محترما، والنقد مقبولا، والمحاسبة بنّاءة.
مثال تطبيقي:
مدير واجه خطأ فادحا من احد موظفيه تسبب في خسارة عميل مهم.
لم يصرخ، ولم يُهن الموظف امام الزملاء. بل استدعاه بشكل منفرد، وشرح له بهدوء اثر الخطأ، وتحدث بلغة مباشرة وواضحة.
قال له: الثقة لا تزال موجودة، لكن ما انتظره منك هو مستوى اعلى من المسؤولية مستقبلا.
ثم اعطاه خطة تصحيح، وتابع دعمه، مع توثيق ما جرى ضمن النظام الاداري.
بهذه الطريقة، جمع المدير بين الحزم والرقي.
فالموظف خرج من اللقاء بوعي اكبر، لا بخوف اكبر، وشعر ان المؤسسة تعاتبه كشريك لا كمذنب.
الذكاء العاطفي لا ينفي الحزم، بل يرفعه الى مستوى اخلاقي راق.

٩. إشارات مرجعية من كتاب "المدير القائد"
وقد تناولتُ هذا المفهوم بعمق في كتابي "المدير القائد: القيادة كأداة استراتيجية في الإدارة المعاصرة والمستقبلية" حيث بينت أن القيادة ليست منصبا مستقلا عن الإدارة بل مهارة حيوية يجب أن يتقنها المدير العصري.
فالمدير القائد لا ينجح فقط بذكائه العقلي أو بكفاءته التنظيمية بل بقدرته على التأثير والتحفيز وإدارة العلاقات الإنسانية داخل المؤسسة.
وقد ورد في الكتاب:
"القيادة ليست صفة تلصق بالمدير بل أداة يستخدمها بذكاء لتوجيه الآخرين نحو الهدف ولا يمكن لهذه الأداة أن تعمل بكفاءة ما لم تكن مشبعة بالذكاء العاطفي والقدرة على قراءة الناس قبل قراءة الأرقام."
في هذا السياق يصبح الذكاء العاطفي أداة استراتيجية لا مجاملة شخصية تسمح للمدير بقيادة الآخرين بوعي عميق وبناء الثقة وتحقيق التماسك التنظيمي وهي مقومات لا تستطيع المهارات التحليلية وحدها أن توفرها.

١٠. دعم بحثي من تجربتي العلمية
وفي هذا السياق أشرتُ في دراستي العلمية بعنوان:
"دور التحفيز كمتغير وسيط في العلاقة بين الابتكار والحكومة الذكية لتمكين موظفي مؤسسة الإمارات للتعليم المدرسي"
إلى أهمية تفعيل التحفيز الإنساني المبني على الفهم العاطفي كجسر حيوي بين الابتكار والتحول المؤسسي الذكي.
وقد أوضحت النتائج أن:
• التحفيز القائم على الوعي الإنساني يُعد من أبرز العوامل المؤثرة في تمكين الموظفين وتعزيز انخراطهم الإيجابي في بيئة العمل.
• المدير الذي يدمج الذكاء العاطفي في أسلوب إدارته يرفع من قدرة الفريق على التكيف الإبداع والمشاركة الفاعلة.
• غياب هذه المهارة في القيادة يجعل التحولات المؤسسية قاصرة وغير مستدامة.
وهذا يتقاطع بوضوح مع جوهر هذا المقال: أن الذكاء العاطفي ليس فقط سلوكا شخصيا بل هو رأس مال قيادي يجب استثماره في بناء بيئة عمل إنسانية محفزة ومنتجة.

١١. فقرة ختامية ملهمة
في عالم يتزايد فيه الاعتماد على الذكاء الاصطناعي نحتاج أكثر من أي وقت مضى إلى الذكاء العاطفي.
نحتاج إلى من يصغي لا من يحلل فقط.
نحتاج إلى من يربط الأرقام بالمشاعر والخطط بالناس والقرارات بالأثر الإنساني.
قد تنسى الناس ماذا قلت.
وقد تنسى ماذا فعلت.
لكنها لن تنسى أبدا كيف جعلتها تشعر.
وهنا تكمن قوة الذكاء العاطفي…
ليس في الإنجاز وحده بل في الأثر.
ليس في الصرامة بل في الاحتواء.
ليس في الكفاءة فقط بل في الرحمة والصدق والوعي الإنساني.
بواسطة : admin
 0  0  15