القيادة الناعمة في عالم قاسٍ: كيف يُصبح اللين قوة؟
https://albdercom.blogspot.com/2025/...g-post_31.html
د.بدر رمضان الحوسني
في زمن تتكاثر فيه الأزمات، وتشتد فيه وتيرة المنافسة، ويعلو فيه صوت القرارات الصارمة والأنظمة المتحجرة، يبحث الناس عن نمط مختلف من القيادة. قيادة لا تقوم على إصدار الأوامر، ولا على فرض الهيبة بالتخويف، بل على بناء العلاقات، وتقدير المشاعر، وإشراك الإنسان كإنسان. إنها القيادة الناعمة، التي بدأت تفرض نفسها بفعالية في عالم قاسٍ لا يرحم، لتؤكد أن التأثير الحقيقي لا يأتي من الصوت المرتفع، بل من الحضور الهادئ والرحيم.
ما المقصود بالقيادة الناعمة؟
القيادة الناعمة هي أسلوب إداري وإنساني يعتمد على التأثير اللطيف، وتحفيز الأفراد من خلال القيم، وبناء الثقة، وتفعيل المشاركة. يتخلى القائد الناعم عن أسلوب الفرض والإجبار، ويتبنى بدلا منه أدوات التمكين والتقدير والإقناع.
ترتبط القيادة الناعمة بمفهوم "القوة الناعمة" الذي أطلقه جوزيف ناي، وتعني القدرة على التأثير غير المباشر عبر الجاذبية الشخصية والثقافية والرمزية. في السياقات الإدارية، تتحول هذه القوة إلى مهارات قيادية تُشعر الموظف بأنه شريك لا تابع، وعضو مساهم لا منفذ أوامر فقط.
من القرآن الكريم: القوة في اللين
القيادة الناعمة ليست اختراعا حديثا، بل لها جذورها العميقة في النصوص القرآنية. يقول الله تعالى في مخاطبة نبيّه موسى عندما أُرسل إلى فرعون:
"فَقُولا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى"
(سورة طه: 44)
هذا التوجيه الإلهي يوضح أن القول اللين قد يكون أبلغ في التأثير من الوعيد، حتى مع من بلغ في الطغيان مبلغ فرعون.
ويقول تعالى عن النبي محمد صلى الله عليه وسلم:
"فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللَّـهِ لِنتَ لَهُمْ ۖ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ"
(سورة آل عمران: 159)
هذه الآية ترسّخ قاعدة نبوية عظيمة: الناس لا يتبعون القائد الغليظ، بل ينجذبون إلى القائد الرحيم.
متى تبرز الحاجة للقيادة الناعمة؟
حين تكون الفرق متعبة من الضغوط وتحتاج إلى الاحتواء.
حين تواجه المؤسسة مقاومة داخلية للتغيير وتحتاج إلى تهيئة وجدانية.
حين يكون المطلوب هو الإلهام لا التنفيذ، والتحول لا التكرار.
في المجتمعات التربوية، حيث تُبنى القيم قبل النتائج.
دراسة واقعية تؤكد فعالية القيادة الناعمة
في دراسة ميدانية حديثة أعدّها د. بدر الحوسني على موظفي مؤسسة الإمارات للتعليم المدرسي، وُجد أن التحفيز (كقوة ناعمة) كان العامل الوسيط الأساسي الذي فعّل العلاقة بين الابتكار والحكومة الذكية من جهة، وبين تمكين الموظفين من جهة أخرى.
فقد أظهرت النتائج أن الموظفين لا يُمكن تمكينهم فعلا من دون بيئة إنسانية قائمة على التقدير، وإشراكهم في اتخاذ القرار، وإعطائهم حرية التعبير، وهو ما تمثله القيادة الناعمة بكل تفاصيلها.
خصائص القائد الناعم
1. * يستمع أكثر مما يتكلم
يجعل من الإصغاء أداة لفهم الناس وبناء الثقة.
2. * يحتوي لا يُقصي
يسعى لاستيعاب التنوع وتذويب الخلافات.
3. * يعطي المعنى قبل المهام
يربط العمل بالهدف والقيمة والرسالة.
هذه السمة تعني أن القائد الناعم لا يبدأ بتوزيع المهام أو إصدار التعليمات بشكل آلي، بل يبدأ بشرح لماذا نقوم بهذا العمل، وما القيمة التي يمثلها، وكيف يخدم الهدف الأكبر للفريق أو المؤسسة. فهو لا يرى العمل مجرد إجراءات روتينية، بل رحلة لها غاية ورسالة.
بدلا من أن يُطلب من الموظف إنجاز تقرير أو تنفيذ تعليمات بلا شرح، يعمل القائد الناعم على توضيح كيف يسهم هذا العمل في خدمة الصورة العامة، وكيف يرتبط برسالة المؤسسة، أو قيم الفريق، أو غاية المشروع. وهذا ما يعزز الحافز الداخلي لدى الأفراد ويزيد من ولائهم وارتباطهم العاطفي بعملهم.
مثال تطبيقي:
في بداية العام الدراسي، قال مدير مؤسسة تربوية لفريقه التعليمي:
"نحن لا نُدرّس فقط مناهج. نحن نزرع قيما، نبني جيلا قادرا على التمييز بين الصواب والخطأ. كل خطة تكتبونها، كل دقيقة في الصف، هي لبنة في بناء مستقبل بلدنا."
هذا النوع من الخطاب لا يحفز فقط على الالتزام، بل يُلهم الأفراد ويمنحهم فهما أعمق لما يقومون به، وهو جوهر القيادة الناعمة التي تُعطي المعنى قبل المهام
4. * يتعامل برحمة
يعرف أن خلف كل تصرف قصة، ويقدم حسن الظن قبل الحكم.
5. * يقود بالقدوة
لا يأمر بما لا يفعله، ويُظهر قيمه في سلوكه.
أمثلة تطبيقية من الواقع
معلمة لاحظت عزوف أحد الطلبة عن المشاركة، فبدل أن تُعاقبه، خصصت له دقائق خاصة لتحاوره، ففتح قلبه، واتضح أنه يواجه مشكلات منزلية. تغير سلوكه بالكامل بعد أن شعر بالاهتمام.
رئيس قسم في مؤسسة حكومية استبدل تقييم الأداء السنوي بجلسات استماع فردية شهرية، فتضاعفت الإنتاجية، وتقلصت نسبة الاستقالات خلال عام واحد.
مدير مدرسة قرر تشكيل مجلس طلابي يُستشار في الفعاليات والنشاطات، فازدادت مشاركة الطلبة وتحسن الانضباط الذاتي.
مقارنة مختصرة: القيادة الناعمة مقابل القيادة الصلبة
القيادة الناعمة
القيادة الصلبة
البند
الحوار والتأثير
الأوامر والسلطة
الأساس
الثقة والمعنى
العقوبات والمكافآت
أدوات التحفيز
تفهم وتصحيح
محاسبة فورية
التعامل مع الأخطاء
شريك ومساهم
تابع ومنفذ
العلاقة بالموظف
مستدامة وعميقة
سريعة ومؤقتة
النتائج
هل تناسب القيادة الناعمة كل البيئات؟
ليست كل البيئات مؤهلة لتطبيق القيادة الناعمة بسهولة، فهي تحتاج إلى:
ثقافة مؤسسية تحترم الإنسان.
وعي إداري متقدم بأهمية الذكاء العاطفي.
وقت وجهد في بناء الثقة، لا فرض السيطرة.
لكن حين تُطبّق بوعي، فإنها تُنتج بيئة عمل أكثر استقرارا، وفرق عمل أكثر التزاما، وقيادة تحقّق النتائج وتبني القلوب في آن واحد.
لنوضح بمثال:
في إحدى الجهات الحكومية، حاول مدير جديد تطبيق أسلوب القيادة الناعمة عبر تقليل التعليمات المباشرة، واعتماد مبدأ التشاور، وفتح باب الحوار مع الموظفين. لكنه واجه مقاومة شديدة من الفريق، ليس لأن فكرته سيئة، بل لأن ثقافة المكان قائمة على الحزم المفرط والتسلسل الهرمي الجامد.
اعتاد الموظفون على أن يتلقوا أوامر واضحة وينفذوها دون نقاش، وعندما طُلب منهم إبداء آرائهم، ظن بعضهم أن المدير يفتقر إلى القرار، واعتبر البعض الآخر أن هذا الأسلوب غير مناسب، لأنه "يضيّع الوقت" ويضعف الانضباط.
النتيجة كانت ارتباكا في الأداء وتضاربا في التوقعات، مما اضطر المدير إلى التراجع الجزئي، ثم إعادة بناء الثقة تدريجيا عبر التواصل المستمر وتوضيح أهداف أسلوبه الجديد.
الدرس المستفاد:
القيادة الناعمة لا تنجح بالنية وحدها، بل تحتاج إلى بيئة ناضجة تحترم الإنسان، وتفهم قيمة الحوار، وتثق بالقائد. ومع الوقت والوعي والتدريب، يمكن تهيئة هذه البيئة. وعندما تنضج، فإن القيادة الناعمة تُثمر نتائج استثنائية: التزام عالٍ، استقرار وظيفي، وانتماء حقيقي للمؤسسة.
إذن كيف كان على المدير أن يتصرف؟
القيادة الناعمة لا تُطبَّق بالقوة، بل تُبنى بالحكمة. وفي المثال السابق، لو أراد المدير الجديد إنجاح أسلوبه، لكان عليه أن يبدأ بالتشخيص والتدرج، لا بالتحول الفوري. وإليك الخطوات المثلى:
١. الفهم أولًا لا التغيير المباشر
كان من الأفضل أن يبدأ المدير بالاستماع للفريق وفهم ثقافتهم الإدارية وتجاربهم السابقة. لا يمكن أن تقود فريقًا لا تفهم كيف يفكر، ولا ما الذي يخيفه أو يُشعره بعدم الأمان.
مثال عملي: كان بإمكانه عقد جلسات استماع أو مقابلات شخصية يسأل فيها الموظفين عن أساليب القيادة التي يرتاحون لها، والصعوبات التي تواجههم، ومقترحاتهم لتحسين بيئة العمل.
٢. التدرج في تطبيق القيادة الناعمة
ليس من الحكمة الانتقال المفاجئ من القيادة الصارمة إلى الانفتاح الكامل. كان من الأفضل أن يبدأ المدير بتمكين تدريجي، كأن يُشرك الفريق في قرارات صغيرة أولًا، ثم يكبر نطاق المشاركة مع الوقت.
مثال: منح بعض الموظفين مسؤولية تنظيم الاجتماعات أو المشاركة في تطوير السياسات الداخلية، ثم تقييم التجربة وتعزيز النجاحات.
٣. شرح فلسفة القيادة الجديدة
من الضروري أن يُفهِم المدير فريقه أن اللين لا يعني التساهل، وأن الحوار لا يلغي الحزم. الشرح يخفف من مقاومة التغيير، ويحول الغموض إلى شراكة.
مثال: يمكنه أن يقول لهم:
"القيادة بالنسبة لي تعني أن ننجز معًا، لا أن أوجّه فقط. أريد أن نستمع لبعضنا ونحترم آراءنا، لكنني في النهاية مسؤول عن القرار."
٤. بناء الثقة الشخصية
الثقة تُبنى من خلال التواصل الإنساني، لا عبر تغيير اللوائح. وكان على المدير أن يخصص وقتا للحديث غير الرسمي، والإشادة بمجهودات الفريق، وإظهار الدعم الفعلي لهم في مواقف العمل.
٥. الحفاظ على الحزم داخل اللين
القيادة الناعمة لا تعني فقدان السيطرة، بل تعني التحكم الناضج. وكان على المدير أن يوضح أنه يستمع للجميع، لكنه قادر على الحسم متى ما لزم الأمر، وهذا يعزز احترام الفريق له.
فالقائد الناعم لا يفرض الأسلوب، بل يُقنع به. لا يُلقي بالأوامر، بل يُبني القناعة. ولو بدأ المدير بالإنصات والتدرج والشرح، لأصبح فريقه أكثر تقبلا، ولكان أسلوبه الناعم قد أثمر نتائج أعمق واستقرارًا أقوى. القيادة الناعمة فن بناء الإنسان قبل النظام، ومتى ما فُهمت بهذا المعنى، أصبح تطبيقها ممكنا حتى في البيئات المتحفظة.
القيادة الناعمة ليست ضعفاً، بل حكمة
في الختام، القيادة الناعمة ليست تنازلا عن الحزم، بل توازنا بينه وبين الإنسانية. هي نمط يُعيد الإنسان إلى قلب القرار. تُلهم لا تُخيف، تبني لا تُقصي، تحتوي لا تفرض. وفي عالم قاسٍ ومتغير، تصبح هذه القيادة هي الأمل في بيئة أكثر عدلا ورحمة.
يقول الله تعالى:
"ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ"
(سورة فصلت: 34)
وهذا هو جوهر القيادة الناعمة: أن تُغير العداوة بالمودة، والجفاء بالرحمة، والجمود بالمعنى.
https://albdercom.blogspot.com/2025/...g-post_31.html
د.بدر رمضان الحوسني
في زمن تتكاثر فيه الأزمات، وتشتد فيه وتيرة المنافسة، ويعلو فيه صوت القرارات الصارمة والأنظمة المتحجرة، يبحث الناس عن نمط مختلف من القيادة. قيادة لا تقوم على إصدار الأوامر، ولا على فرض الهيبة بالتخويف، بل على بناء العلاقات، وتقدير المشاعر، وإشراك الإنسان كإنسان. إنها القيادة الناعمة، التي بدأت تفرض نفسها بفعالية في عالم قاسٍ لا يرحم، لتؤكد أن التأثير الحقيقي لا يأتي من الصوت المرتفع، بل من الحضور الهادئ والرحيم.
ما المقصود بالقيادة الناعمة؟
القيادة الناعمة هي أسلوب إداري وإنساني يعتمد على التأثير اللطيف، وتحفيز الأفراد من خلال القيم، وبناء الثقة، وتفعيل المشاركة. يتخلى القائد الناعم عن أسلوب الفرض والإجبار، ويتبنى بدلا منه أدوات التمكين والتقدير والإقناع.
ترتبط القيادة الناعمة بمفهوم "القوة الناعمة" الذي أطلقه جوزيف ناي، وتعني القدرة على التأثير غير المباشر عبر الجاذبية الشخصية والثقافية والرمزية. في السياقات الإدارية، تتحول هذه القوة إلى مهارات قيادية تُشعر الموظف بأنه شريك لا تابع، وعضو مساهم لا منفذ أوامر فقط.
من القرآن الكريم: القوة في اللين
القيادة الناعمة ليست اختراعا حديثا، بل لها جذورها العميقة في النصوص القرآنية. يقول الله تعالى في مخاطبة نبيّه موسى عندما أُرسل إلى فرعون:
"فَقُولا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى"
(سورة طه: 44)
هذا التوجيه الإلهي يوضح أن القول اللين قد يكون أبلغ في التأثير من الوعيد، حتى مع من بلغ في الطغيان مبلغ فرعون.
ويقول تعالى عن النبي محمد صلى الله عليه وسلم:
"فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللَّـهِ لِنتَ لَهُمْ ۖ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ"
(سورة آل عمران: 159)
هذه الآية ترسّخ قاعدة نبوية عظيمة: الناس لا يتبعون القائد الغليظ، بل ينجذبون إلى القائد الرحيم.
متى تبرز الحاجة للقيادة الناعمة؟
حين تكون الفرق متعبة من الضغوط وتحتاج إلى الاحتواء.
حين تواجه المؤسسة مقاومة داخلية للتغيير وتحتاج إلى تهيئة وجدانية.
حين يكون المطلوب هو الإلهام لا التنفيذ، والتحول لا التكرار.
في المجتمعات التربوية، حيث تُبنى القيم قبل النتائج.
دراسة واقعية تؤكد فعالية القيادة الناعمة
في دراسة ميدانية حديثة أعدّها د. بدر الحوسني على موظفي مؤسسة الإمارات للتعليم المدرسي، وُجد أن التحفيز (كقوة ناعمة) كان العامل الوسيط الأساسي الذي فعّل العلاقة بين الابتكار والحكومة الذكية من جهة، وبين تمكين الموظفين من جهة أخرى.
فقد أظهرت النتائج أن الموظفين لا يُمكن تمكينهم فعلا من دون بيئة إنسانية قائمة على التقدير، وإشراكهم في اتخاذ القرار، وإعطائهم حرية التعبير، وهو ما تمثله القيادة الناعمة بكل تفاصيلها.
خصائص القائد الناعم
1. * يستمع أكثر مما يتكلم
يجعل من الإصغاء أداة لفهم الناس وبناء الثقة.
2. * يحتوي لا يُقصي
يسعى لاستيعاب التنوع وتذويب الخلافات.
3. * يعطي المعنى قبل المهام
يربط العمل بالهدف والقيمة والرسالة.
هذه السمة تعني أن القائد الناعم لا يبدأ بتوزيع المهام أو إصدار التعليمات بشكل آلي، بل يبدأ بشرح لماذا نقوم بهذا العمل، وما القيمة التي يمثلها، وكيف يخدم الهدف الأكبر للفريق أو المؤسسة. فهو لا يرى العمل مجرد إجراءات روتينية، بل رحلة لها غاية ورسالة.
بدلا من أن يُطلب من الموظف إنجاز تقرير أو تنفيذ تعليمات بلا شرح، يعمل القائد الناعم على توضيح كيف يسهم هذا العمل في خدمة الصورة العامة، وكيف يرتبط برسالة المؤسسة، أو قيم الفريق، أو غاية المشروع. وهذا ما يعزز الحافز الداخلي لدى الأفراد ويزيد من ولائهم وارتباطهم العاطفي بعملهم.
مثال تطبيقي:
في بداية العام الدراسي، قال مدير مؤسسة تربوية لفريقه التعليمي:
"نحن لا نُدرّس فقط مناهج. نحن نزرع قيما، نبني جيلا قادرا على التمييز بين الصواب والخطأ. كل خطة تكتبونها، كل دقيقة في الصف، هي لبنة في بناء مستقبل بلدنا."
هذا النوع من الخطاب لا يحفز فقط على الالتزام، بل يُلهم الأفراد ويمنحهم فهما أعمق لما يقومون به، وهو جوهر القيادة الناعمة التي تُعطي المعنى قبل المهام
4. * يتعامل برحمة
يعرف أن خلف كل تصرف قصة، ويقدم حسن الظن قبل الحكم.
5. * يقود بالقدوة
لا يأمر بما لا يفعله، ويُظهر قيمه في سلوكه.
أمثلة تطبيقية من الواقع
معلمة لاحظت عزوف أحد الطلبة عن المشاركة، فبدل أن تُعاقبه، خصصت له دقائق خاصة لتحاوره، ففتح قلبه، واتضح أنه يواجه مشكلات منزلية. تغير سلوكه بالكامل بعد أن شعر بالاهتمام.
رئيس قسم في مؤسسة حكومية استبدل تقييم الأداء السنوي بجلسات استماع فردية شهرية، فتضاعفت الإنتاجية، وتقلصت نسبة الاستقالات خلال عام واحد.
مدير مدرسة قرر تشكيل مجلس طلابي يُستشار في الفعاليات والنشاطات، فازدادت مشاركة الطلبة وتحسن الانضباط الذاتي.
مقارنة مختصرة: القيادة الناعمة مقابل القيادة الصلبة
القيادة الناعمة
القيادة الصلبة
البند
الحوار والتأثير
الأوامر والسلطة
الأساس
الثقة والمعنى
العقوبات والمكافآت
أدوات التحفيز
تفهم وتصحيح
محاسبة فورية
التعامل مع الأخطاء
شريك ومساهم
تابع ومنفذ
العلاقة بالموظف
مستدامة وعميقة
سريعة ومؤقتة
النتائج
هل تناسب القيادة الناعمة كل البيئات؟
ليست كل البيئات مؤهلة لتطبيق القيادة الناعمة بسهولة، فهي تحتاج إلى:
ثقافة مؤسسية تحترم الإنسان.
وعي إداري متقدم بأهمية الذكاء العاطفي.
وقت وجهد في بناء الثقة، لا فرض السيطرة.
لكن حين تُطبّق بوعي، فإنها تُنتج بيئة عمل أكثر استقرارا، وفرق عمل أكثر التزاما، وقيادة تحقّق النتائج وتبني القلوب في آن واحد.
لنوضح بمثال:
في إحدى الجهات الحكومية، حاول مدير جديد تطبيق أسلوب القيادة الناعمة عبر تقليل التعليمات المباشرة، واعتماد مبدأ التشاور، وفتح باب الحوار مع الموظفين. لكنه واجه مقاومة شديدة من الفريق، ليس لأن فكرته سيئة، بل لأن ثقافة المكان قائمة على الحزم المفرط والتسلسل الهرمي الجامد.
اعتاد الموظفون على أن يتلقوا أوامر واضحة وينفذوها دون نقاش، وعندما طُلب منهم إبداء آرائهم، ظن بعضهم أن المدير يفتقر إلى القرار، واعتبر البعض الآخر أن هذا الأسلوب غير مناسب، لأنه "يضيّع الوقت" ويضعف الانضباط.
النتيجة كانت ارتباكا في الأداء وتضاربا في التوقعات، مما اضطر المدير إلى التراجع الجزئي، ثم إعادة بناء الثقة تدريجيا عبر التواصل المستمر وتوضيح أهداف أسلوبه الجديد.
الدرس المستفاد:
القيادة الناعمة لا تنجح بالنية وحدها، بل تحتاج إلى بيئة ناضجة تحترم الإنسان، وتفهم قيمة الحوار، وتثق بالقائد. ومع الوقت والوعي والتدريب، يمكن تهيئة هذه البيئة. وعندما تنضج، فإن القيادة الناعمة تُثمر نتائج استثنائية: التزام عالٍ، استقرار وظيفي، وانتماء حقيقي للمؤسسة.
إذن كيف كان على المدير أن يتصرف؟
القيادة الناعمة لا تُطبَّق بالقوة، بل تُبنى بالحكمة. وفي المثال السابق، لو أراد المدير الجديد إنجاح أسلوبه، لكان عليه أن يبدأ بالتشخيص والتدرج، لا بالتحول الفوري. وإليك الخطوات المثلى:
١. الفهم أولًا لا التغيير المباشر
كان من الأفضل أن يبدأ المدير بالاستماع للفريق وفهم ثقافتهم الإدارية وتجاربهم السابقة. لا يمكن أن تقود فريقًا لا تفهم كيف يفكر، ولا ما الذي يخيفه أو يُشعره بعدم الأمان.
مثال عملي: كان بإمكانه عقد جلسات استماع أو مقابلات شخصية يسأل فيها الموظفين عن أساليب القيادة التي يرتاحون لها، والصعوبات التي تواجههم، ومقترحاتهم لتحسين بيئة العمل.
٢. التدرج في تطبيق القيادة الناعمة
ليس من الحكمة الانتقال المفاجئ من القيادة الصارمة إلى الانفتاح الكامل. كان من الأفضل أن يبدأ المدير بتمكين تدريجي، كأن يُشرك الفريق في قرارات صغيرة أولًا، ثم يكبر نطاق المشاركة مع الوقت.
مثال: منح بعض الموظفين مسؤولية تنظيم الاجتماعات أو المشاركة في تطوير السياسات الداخلية، ثم تقييم التجربة وتعزيز النجاحات.
٣. شرح فلسفة القيادة الجديدة
من الضروري أن يُفهِم المدير فريقه أن اللين لا يعني التساهل، وأن الحوار لا يلغي الحزم. الشرح يخفف من مقاومة التغيير، ويحول الغموض إلى شراكة.
مثال: يمكنه أن يقول لهم:
"القيادة بالنسبة لي تعني أن ننجز معًا، لا أن أوجّه فقط. أريد أن نستمع لبعضنا ونحترم آراءنا، لكنني في النهاية مسؤول عن القرار."
٤. بناء الثقة الشخصية
الثقة تُبنى من خلال التواصل الإنساني، لا عبر تغيير اللوائح. وكان على المدير أن يخصص وقتا للحديث غير الرسمي، والإشادة بمجهودات الفريق، وإظهار الدعم الفعلي لهم في مواقف العمل.
٥. الحفاظ على الحزم داخل اللين
القيادة الناعمة لا تعني فقدان السيطرة، بل تعني التحكم الناضج. وكان على المدير أن يوضح أنه يستمع للجميع، لكنه قادر على الحسم متى ما لزم الأمر، وهذا يعزز احترام الفريق له.
فالقائد الناعم لا يفرض الأسلوب، بل يُقنع به. لا يُلقي بالأوامر، بل يُبني القناعة. ولو بدأ المدير بالإنصات والتدرج والشرح، لأصبح فريقه أكثر تقبلا، ولكان أسلوبه الناعم قد أثمر نتائج أعمق واستقرارًا أقوى. القيادة الناعمة فن بناء الإنسان قبل النظام، ومتى ما فُهمت بهذا المعنى، أصبح تطبيقها ممكنا حتى في البيئات المتحفظة.
القيادة الناعمة ليست ضعفاً، بل حكمة
في الختام، القيادة الناعمة ليست تنازلا عن الحزم، بل توازنا بينه وبين الإنسانية. هي نمط يُعيد الإنسان إلى قلب القرار. تُلهم لا تُخيف، تبني لا تُقصي، تحتوي لا تفرض. وفي عالم قاسٍ ومتغير، تصبح هذه القيادة هي الأمل في بيئة أكثر عدلا ورحمة.
يقول الله تعالى:
"ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ"
(سورة فصلت: 34)
وهذا هو جوهر القيادة الناعمة: أن تُغير العداوة بالمودة، والجفاء بالرحمة، والجمود بالمعنى.
https://albdercom.blogspot.com/2025/...g-post_31.html